الضوابط الأخلاقية ومظاهر الفساد الإداري في مؤسسات الدولة

تزداد مظاهر الفساد الإداري انتشاراً في المجتمعات الحديثة بشكل عام، وفي البلدان النامية بشكل خاص بسبب خصوصية التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها، وتعاني منها منذ قرن مضى وأكثر، وقد بلغت هذه المظاهر درجة أصبحت فيها تشكل مصدر قلق متزايد لرجال السياسة والإداريين وعامة الناس نظراً لارتباطها بهم ارتباطاً وثيقاً، ولكونها تمس مصالحهم القريبة والبعيدة على حد سواء.
وبرغم مخاطر المشكلة وإدراك السياسيين والإداريين ورجال القضاء لها، وبرغم الجهود الكبيرة التي تبذل لوضع حد لها والقضاء عليها فإن المشكلة تتعاظم يوماً بعد آخر، إلى درجة قد يخيل إلى المرء فيها أن مؤسسات كبيرة تأخذ بحماية الفساد، ورعايته، وتشجيعه، وهي مؤسسات تتصف بالقوة والمنعة والسلطة التي تفوق قوة الدولة، وقوة القانون، غير أن هذا الانطباع لا يقوم على دعائم تؤيده أو وثائق تؤكده في حيز الواقع، إنما مستمدة من الانطباع العام بأن الفساد ينتشر بقوة، ولا تستطيع الدولة الحديثة بما لديها من قوة القانون، وسلطة القضاء من مقاومته، أو القضاء عليه.
وبرغم ذلك فإن هذا الإحساس غالباً ما ينطوي على شيء من الحقيقية، فما من دولة في العالم إلا وتظهر فيها مجموعة من الناس ترغب في تحقيق المنافع الشخصية والذاتية على حساب ما هو عام، وبالتالي فهي تسعى في الأرض فساداً، وتعبث بحقوق الآخرين بصرف النظر عما يترتب على ذلك من نتائج تمس البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، وقد يسهم هؤلاء وفي كل مجتمع بتكوين ما هو أقرب إلى التنظيم بينهم، والتنسيق في تبادل المنافع التي تتجاوز حقوقهم. بالإضافة إلى إمكانية قيامهم بالتستر على جرائم بعضهم بعضاً، وإخفاء الوثائق التي تدينهم لأن تجريم أي منهم يؤدي إلى تجريمهم جميعاً، مما يجعل وقوفهم إلى جانب بعضهم ضرورة من ضرورات مصالحهم الفردية أكثر من كونه وفاء لبعضهم. وإلى جانب ذلك تنتشر في كل مجتمع أيضاً جماعات أكثر عدداً، وأكبر حجماً تسعى إلى إحقاق الحق، وإقامة العدل، غير أن هؤلاء أقل تنظيماً، وأكثر تشتتاً، ولهذا فهم أقل فاعلية، وأضعف تأثيراً في مسيرة الحياة الاجتماعية، ولهذا فإن قوة الفساد لا تأتي من التنظيم الذي يشيده الناس المفسدون فحسب، بل من ضعف التنظيم القائم بين المجموعات الكبيرة من الناس التي تنشد إحقاق الحق ورفع الظلم.
ويأخذ الباحثون في علم الاجتماع مذاهب عديدة في تفسيرهم لمظاهر الفساد، فمنهم من يعيدها إلى الحاجة الاقتصادية، وغياب العدالة في توزيع الناتج، ومنهم من يعيدها إلى النظم الإدارية وضعف الرقابة، وغياب المحاسبة، ومنهم من يعيدها إلى الاعتبارات السياسية وغياب الديمقراطية.. غير أن هذه التصورات تعيد الظاهرة إلى قضايا هي بحد ذاتها بحاجة إلى تفسير وتحليل موضوعيين، وقد جاء ظهورها مقروناً بمظاهر الفساد أكثر مما هي سببه والعامل المؤدي إليه، الأمر الذي ينفي إمكانية النظر إليها على أنها تشكل الأسباب الفاعلة.
وتتجه الدراسة في تحليلها لمظاهر الفساد الإداري بانحلال البناء القيمي، وضعف الضوابط الأخلاقية والاجتماعية بالنسبة إلى الفاعلين، ويتجلى ذلك بأوضح صورة له بانحلال المنظومة الثقافية والحضارية في المجتمع، وغياب الدلالات والمعاني التي تنطوي عليها أنماط السلوك الاجتماعي مما يؤدي إلى غياب قدرة الفاعلين على التمييز بين السلوك المعياري والسلوك اللامعياري بسبب تناقض الدلالات واختلاف المعاني في المنظومة الثقافية والحضارية، حيث تصبح المعايير المحددة لاتجاهات الفعل وأنماط السلوك مبنية على تغليب المصلحة الفردية، وغياب البعد الاجتماعي والمصلحة العامة.

وغالباً ما يترتب على ذلك ازدياد واضح في مظاهر الفساد الاجتماعي والإداري على حد سواء، حيث تنتشر بسرعة ظواهر التعاطي غير المشروع للمخدرات، والدعارة، والجرائم المنظمة، بالإضافة إلى ظواهر الاختلاس والرشوة وغسيل الأموال وغير ذلك من الظواهر التي تهدد أمن المجتمع، وأمن الأفراد على حد سواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق